فصل: تفسير الآيات (7- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (7- 15):

قوله تعالى: {فإِذا برق الْبصرُ (7) وخسف الْقمرُ (8) وجُمِع الشّمْسُ والْقمرُ (9) يقول الإنسان يوْمئِذٍ أيْن الْمفرُّ (10) كلّا لا وزر (11) إِلى ربِّك يوْمئِذٍ الْمُسْتقرُّ (12) يُنبّأُ الإنسان يوْمئِذٍ بِما قدّم وأخّر (13) بلِ الإنسان على نفسه بصِيرة (14) ولوْ ألْقى معاذِيرهُ (15)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الجواب: يوم يكون كذا وكذا، عدل عنه إلى ما سبب عن استبعاده لأنه أهول، فقال دالا على خراب العالم لتجرد الإنسان عن مسكنه وما ألفه من أحواله فيكون أهول معبرا بأداة التحقق لأنها موضعها: {فإذا برق البصر} أي شخص وقف فلا يطرف من هول ما يرى- هذا على قراءة نافع بالفتح، وهي إشارة إلى مبدأ حاله، وقراءة الجماعة بالكسر مشيرة إلى مآله فإن معناها: تحير ودهش وغلب، من برق الرجل- إذا نظر إلى البرق فحسر بصره وتفرق تفرق الشيء في المايع إذا انفتح عنه وعاؤه بدليل قراءة بلق من بلق الباب- إذا انفتح، وبلق الباب كنصر: فتحه كله، أو شديدا كأبلقه فانبلق، وبلق كفرح: تحير- قاله في القاموس.
ولما كانت آيات السماوات أخوف، ذكرها بادئا بما طبعه البرد، إشارة إلى شدة الحر والتوهج والأخذ بالأنفاس الموجب لشدة اليأس فقال: {وخسف القمر} أي وجد خسفه بأن خسفه الله تعالى أذهب صورته كما تذهب صورة الأرض المخسوفة، وذلك بإذهاب ضوئه من غير سبب لزوال ربط المسببات في ذلك اليوم بالأسباب وظهور الخوارق بدليل قوله: {وجمع} أي جمعا هو في غاية الإحكام والشدة كما أفهمه التذكير وعلى أيسر الوجوه وأسهلها {الشمس} أي آية النهار {والقمر} مع عدم إنارته وإن كان نوره الآن من نورها فذهب الانتفاع بهما وهما مع ذهاب النور وتفرق البصر مدركان لوجود الكشف التام عن الخفيات كما قال تعالى: {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22] وبعد جمعهما يلقيان في النار كأنهما ثوران عقيران، وبني الفعل للمفعول لأن المهول مطلق جمعهما المخرج لهما عن العادة وللدلالة على السهولة.
ولما عظم أمر القيامة بما تقدم، أكد ذلك بأن الأمر فيه على غير ما نعهده في الدنيا من وجدان مهرب أو حاكم غير الذي يخافه المطلوب أو شيء من تشعب الكلمة وتفرقها فقال: {يقول الإنسان} أي بشدة روعه جريا مع طبعه {يومئذ} أي إذا كان هذا الخطب الأجل والقادح الأكبر، وحكى بيقول جملة اسمية من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر فقال: {أين المفر} أي الفرار والموضع الذي إليه الفرار والزمان القابل لذلك، قول آيس مدهوش قاده إليه الطبع، وذلك حين تقاد جهنم بسبعين ألف سلسلة، كل سلسلة بأيد سبعين ألف ملك، لها زفير وشهيق.
ولما كان ذلك اليوم يوم انقطاع الأسباب، قال نافيا بما سال عنه بأداة الردع: {كلا} أي لا يقال هذا فإنه لا سبيل إلى وجود معناه وهو معنى {لا وزر} أي ملجأ ومعتصم ولا حصن ولا التجاء واعتصام، وكون هذا من كلام الإنسان رجوعا من طبعه إلى عقله أقعد وأدل على الهول لأنه لا يفهم أنه بعد أن سأل من عظيم الهول نظر في جملة الأمر فتحقق أن لا حيلة بوجه أصلا، فقال معبرا بالأداة الجامعة لمجامع الردع.
ولما كان المعنى: لا مفر من الله إلا إليه، لأن ملكه محيط وقدرته شاملة، قال مترجما عنه ذاكرا صفة الإحسان لوما لنفسه على عدم الشكر: {إلى ربك} أي المحسن إليك بأنواع الإحسان وحده، لا إلى شيء غيره {يومئذ} أي إذ كانت هذه الأشياء {المستقر} أي استقرار الخلق كلهم ناطقهم وصامتهم ومكان قرارهم وزمانه إلى حكمه سبحانه ومشيئته ظاهرا وباطنا لا حكم لأحد غيره بوجه من الوجوه في ظاهر ولا باطن كما هو في الدنيا.
ولما كان موضع السؤال عن علة هذا الاستقرار، قال مستأنفا بانيا للمفعول لأن المنكئ إنما هو كشف الأسرار لا كونه من كاشف معين، وللدلالة على يسر ذلك عليه سبحانه وتعالى بأن من ندبه إلى ذلك فعله كائنا من كان: {ينبؤا} أي يخبر تخبيرا عظيما مستقصى {الإنسان يومئذ} أي إذ كان هذا الزلزال الأكبر {بما قدم} أي من عمله العظيم {وأخر} أي في أول عمره وآخره- كناية عن الاستقصاء أو بما قدمه فآثره على غيره هل هو الشرع أو الهوى أو بما عمل في مدة عمره وبما أخر عمله لمعاجلة الموت له عنه فيخبر بما كان يعمله من أمله لو مد في أجله، أو الذي قدمه هو ما عمله بنفسه وما أخره هو ما سنه فعمل به الناس من بعده من خير أو شر- قاله ابن عباس رضى الله عنهما، وعليه مشى الغزالي في الباب الثالث من كتاب البيع من الإحياء.
ولما عظم القيامة بكشف الأسرار فيها والإنباء بها، وكان الشأن أن الإنسان لا ينبأ إلا بما هو جاهل له أو غائب عنه، وكان مما يخف على الإنسان في الدنيا النسيان، وكان ذلك اليوم يوم كشف الغطاء، زاده عظما بالإعلام بأنه يجلو بصِيرة الإنسان حتى يصير مستحضرا لجميع ما له من شأن، فكان التقدير: وليس جاهلا بشيء من ذلك ولا محتاجا إلى الإنباء به، قال بانيا عليه: {بل الإنسان} أي كل واحد من هذا النوع {على نفسه} خاصة {بصِيرة} أي حجة بينة على أعماله، فالهاء للمبالغة- يعني أنه في غاية المعرفة لأحوال نفسه فإنه إذا تأمل وأنعم النظر ولم يقف مع الحظوظ عرف جيد فعله من رديئه، أما في الدنيا فلان الفطر الأولى شاهدة بالخير والشر- كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في الصدر وترددت فيه النفس وإن أفتاك الناس وأفتوك» رواه الإمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت»- رواه البخاري عن ابن مسعود- رضى الله عنه ـ، وأما في الآخرة فإن الله يعطيه في ذلك اليوم قوة الذكرى حتى تصير أعماله كلها بين عينيه لأنه تعالى ينفي عنه الشواغل البدنية ويكشف عنه الحجب النفسانية حتى تصير أعماله ممثلة له كأنه يراها ولا تنفعه معذرته، لأن كل شيء يعتذر به عن نفسه يعرف كذبه بنفس وجوده لا بشيء خارج عنه تارة يكون خالقه أوجده على ما هو عليه من العلم وسلامة الأسباب المزيلة للعلل وتارة بإنطاق جوارحه.
ولما كان الإنسان يعتذر في ذلك اليوم عن كل سوء عمله، ويجادل أعظم مجادلة، وكان المجادل في الغالب يظن أنه لم يذنب أو لا يعلم له ذنبا، قال: {ولو ألقى} أي ذكر بغاية السرعة ذلك الإنسان من غير تلعثم دلالة على غاية الصدق والاهتمام والتملق {معاذيره} أي كل كلام يمكن أن يخلص به، جمع عذر أو معذرة وهو إيساع الحيلة في دفع الخلل: وقال في القاموس: المعاذير: الستور والحجج جمع معذار، وذلك لاشتراكهما في مطلق الستر بالفتح والستر بالكسر في ستر المذنب والحجة في ستر الذنب فالمعنى أنه حجة على نفسه ولو احتج عنها واجتهد في ستر عيوبها، فلا تقبل منها الأعذار، لأنه قد أعطى البصِيرة فأعماها بهون النفس وشهواتها، وتلك البصِيرة هي نور المعرفة المركوز في الفطرة الأولى وهي كقوله تعالى: {لا ينفع الظالمين معذرتهم}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم إنه تعالى ذكر علامات القيامة:
{فإِذا برق الْبصرُ (7)} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى ذكر من علامات القيامة في هذا الموضع أمورا ثلاثة أولها: قوله: {فإِذا برق البصر} قرئ بكسر الراء وفتحها، قال الأخفش: المكسورة في كلامهم أكثر والمفتوحة لغة أيضا، قال الزجاج: برق بصره بكسر الراء يبرق برقا إذا تحير، والأصل فيه أن يكثر الإنسان من النظر إلى لمعان البرق، فيؤثر ذلك في ناظره، ثم يستعمل ذلك في كل حيرة، وإن لم يكن هناك نظر إلى البرق، كما قالوا: قمر بصره إذا فسد من النظر إلى القمر، ثم استعير في الحيرة، وكذلك بعل الرجل في أمره، أي تحير ودهش، وأصله من قولهم: بعلت المرأة إذا فاجأها زوجها، فنظرت إليه وتحيرت، وأما برق بفتح الراء، فهو من البريق، أي لمع من شدة شخوصه، وقرأ أبو السمال {بلق} بمعنى انفتح، وانفتح يقال: بلق الباب وأبلقته وبلقته فتحته.
المسألة الثانية:
اختلفوا في أن هذه الحالة متى تحصل؟ فقيل: عند الموت، وقيل: عند البعث وقيل: عند رؤية جهنم، فمن قال: إن هذا يكون عند الموت، قال: إن البصر يبرق على معنى يشخص عند معاينة أسباب الموت، والملائكة كما يوجد ذلك في كل واحد إذا قرب موته، ومن مال إلى هذا التأويل، قال: إنهم إنما سألوه عن يوم القيامة، لكنه تعالى ذكر هذه الحادثة عند الموت والسبب فيه من وجهين: الأول: أن المنكر لما قال: {أيّان يوْمُ القيامة} [القيامة: 6] على سبيل الاستهزاء فقيل له: إذا برق البصر وقرب الموت زالت عنه الشكوك، وتيقن حينئذ أن الذي كان عليه من إنكار البعث والقيامة خطأ الثاني: أنه إذا قرب موته وبرق بصره تيقن أن إنكار البعث لأجل طلب اللذات الدنيوية كان باطلا، وأما من قال بأن ذلك إنما يكون عند قيام القيامة، قال: لأن السؤال إنما كان عن يوم القيامة، فوجب أن يقع الجواب بما يكون من خواصه وآثاره، قال تعالى: {إِنّما يُؤخّرُهُمْ لِيوْمٍ تشْخصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 41]، وثانيها: قوله: {وخسف القمر} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
يحتمل أن يكون المراد من خسوف القمر ذهاب ضوئه كما نعقله من حاله إذا خسف في الدنيا، ويحتمل أن يكون المراد ذهابه بنفسه كقوله: {فخسفْنا به وبِدارِهِ الأرض} [القصص: 81].
المسألة الثانية:
قرئ: {وخسف القمر} على البناء للمفعول وثالثها: قوله: {وجُمِع الشمس والقمر} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
ذكروا في كيفية الجمع وجوها أحدها: أنه تعالى قال: {لا الشمس ينبغِى لها أن تدْرِك القمر} [يس: 40] فإذا جاء وقت القيامة أدرك كل واحد منهما صاحبه واجتمعا وثانيها: جمعا في ذهاب الضوء، فهو كما يقال: الشافعي يجمع ما بين كذا وكذا في حكم كذا وثالثها: يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار، وقيل: يجمعان ثم يقذفان في البحر، فهناك نار الله الكبرى واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها في قوله: {وخسف القمر}، وجمع الشمس والقمر إنما تستقيم على مذهب من يجعل برق البصر من علامات القيامة، فأما من يجعل برق البصر من علامات الموت قال معنى: {وخسف القمر} أي ذهب ضوء البصر عند الموت، يقال عين خاسفة، إذا فقئت حتى غابت حدقتها في الرأس، وأصلها من خسفت الأرض إذا ساخت بما عليها، وقوله: {وجُمِع الشمس والقمر} كناية عن ذهاب الروح إلى عالم الآخرة، كأن الآخرة كالشمس، فإنه يظهر فيها المغيبات وتتضح فيها المبهمات، والروح كالقمر فإنه كما أن القمر يقبل النور من الشمس، فكذا الروح تقبل نور المعارف من عالم الآخرة، ولا شك أن تفسير هذه الآيات بعلامات القيامة أولى من تفسيرها بعلامات الموت وأشد مطابقة لها.
المسألة الثانية:
قال الفراء: إنما قال جمع، ولم يقل: جمعت لأن المراد أنه جمع بينهما في زوال النور وذهاب الضوء، وقال الكسائي، المعنى جمع النوران أو الضياءان، وقال أبو عبيدة، القمر شارك الشمس في الجمع، وهو مذكر، فلا جرم غلب جانب التذكير في اللفظ، قال الفراء، قلت: لمن نصر هذا القول: كيف تقولون: الشمس جمع والقمر؟ فقالوا: جمعت، فقلت ما الفرق بين الموضعين؟ فرجع عن هذا القول.
المسألة الثالثة:
طعنت الملاحدة في الآية، وقالوا: خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر والجواب: الله تعالى قادر على أن يجعل القمر منخسفا، سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس، أو لم تكن، والدليل عليه أن الأجسام متماثلة، فيصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر، والله قادر على كل الممكنات، فوجب أن يقدر على إزالة الضوء عن القمر في جميع الأحوال.
قوله تعالى: {يقول الإنسان يوْمئِذٍ أيْن المفر} أي يقول هذا الإنسان المنكر للقيامة إذا عاين هذه الأحوال أين المفر، والقراءة المشهورة بفتح الفاء، وقرئ أيضا بكسر الفاء، و{المفر} بفتح الفاء هو الفرار، قال الأخفش والزجاج: المصدر من فعل يفعل مفتوح العين.
وهو قول جمهور أهل اللغة، والمعنى أين الفرار، وقول القائل: أين الفرار يحتمل معنيين أحدهما: أنه لا يرى علامات مكنة الفرار فيقول حينئذ: أين الفرار، كما إذا أيس من وجدان زيد يقول: أين زيد والثاني: أن يكون المعنى إلى أين الفرار، وأما المفر بكسر الفاء فهو الموضع، فزعم بعض أهل اللغة أن المفر بفتح الفاء كما يكون اسما للمصدر، فقد يكون أيضا اسما للموضع والمفر بكسر الفاء كما يكون اسما للموضع، فقد يكون مصدرا ونظيره المرجع.
{كلّا لا وزر (11)}
قوله تعالى: {كلاّ} وهو ردع عن طلب المفر {لا وزر} قال المبرد والزجاج: أصل الوزر الجبل المنيع، ثم يقال: لكل ما التجأت إليه وتحصنت به وزر، وأنشد المبرد قول كعب بن مالك:
الناس آلت علينا فيك ليس لنا ** إلا السيوف وأطراف القنا وزر

ومعنى الآية أنه لا شيء يعتصم به من أمر الله.
{إِلى ربِّك يوْمئِذٍ الْمُسْتقرُّ} (12)
وفيه وجهان أحدهما: أن يكون المستقر بمعنى الاستقرار، بمعنى أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره، وينصبوا إلى غيره، كما قال: {إِنّ إلى ربّك الرجعى} [العلق: 8] {وإلى الله المصير} [النور: 42] {ألا إِلى الله تصِيرُ الأمور} [الشورى: 53] {وأنّ إلى ربّك المنتهى} [النجم: 12] الثاني: أن يكون المعنى إلى ربك مستقرهم، أي موضع قرارهم من جنة أو نار، أي مفوض ذلك إلى مشيئته من شاء أدخله الجنة، ومن شاء أدخله النار.
{يُنبّأُ الإنسان يوْمئِذٍ بِما قدّم وأخّر (13)}
بما قدم من عمل عمله، وبما أخر من عمل لم يعمله، أو بما قدم من ماله فتصدق به وبما أخره فخلفه، أو بما قدم من عمل الخير والشر وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة، فعمل بها بعده، وعن مجاهد أنه مفسر بأول العمل وآخره، ونظيره قوله: {فيُنبّئُهُمْ بِما عمِلُواْ أحصاه الله ونسُوهُ} [المجادلة: 6] وقال: {ونكْتُبُ ما قدّمواْ وءاثارهُمْ} [يس: 12] واعلم أن الأظهر أن هذا الإنباء يكون يوم القيامة عند العرض، والمحاسبة ووزن الأعمال، ويجوز أن يكون عند الموت وذلك أنه إذا مات بين له مقعده من الجنة والنار.
{بلِ الإنسان على نفسه بصِيرة (14)}
اعلم أنه تعالى لما قال: ينبؤ الإنسان يومئذ بأعماله، قال: بل لا يحتاج إلى أن ينبئه غير غيره، وذلك لأن نفسه شاهدة بكونه فاعلا لتلك الأفعال، مقدما عليها، ثم في قوله: {بصِيرة} وجهان الأول: قال الأخفش جعله في نفسه بصِيرة كما يقال: فلان جود وكرم، فههنا أيضا كذلك، لأن الإنسان بضرورة عقله يعلم أن ما يقربه إلى الله ويشغله بطاعته وخدمته فهو السعادة، وما يبعده عن طاعة الله ويشغله بالدنيا ولذاتها فهو الشقاوة، فهب أنه بلسانه يروج ويزور ويرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، لكنه بعقله السليم يعلم أن الذي هو عليه في ظاهره جيد أو رديء والثاني: أن المراد جوارحه تشهد عليه بما عمل فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل وهو كقوله: {يوْم تشْهدُ عليْهِمْ ألْسِنتُهُمْ وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ} [النور: 24] وقوله: {وتُكلّمُنا أيْدِيهِمْ وتشْهدُ أرْجُلُهُمْ} [يس: 36] وقوله: {شهِد عليْهِمْ سمْعُهُمْ وأبصارهم وجُلُودُهُم} [فصلت: 20] فأما تأنيث البصِيرة، فيجوز أن يكون لأن المراد بالإنسان هاهنا الجوارح كأنه قيل: بل جوارح الإنسان، كأنه قيل بل جوارح الإنسان على نفس الإنسان بصِيرة، وقال أبو عبيدة هذه الهاء لأجل المبالغة كقوله: رجل راوية وطاغية وعلامة.
واعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الإنسان يخبر يوم القيامة بأعماله.
ثم ذكر في هذه الآية أنه شاهد على نفسه بما عمل، فقال الواحدي هذا يكون من الكفار فإنهم ينكرون ما عملوا فيختم الله على أفواههم وينطق جوارحهم.
{ولوْ ألْقى معاذِيرهُ (15)}
للمفسرين فيه أقوال: الأول: قال الواحدي: المعاذير جمع معذرة يقال: معذرة ومعاذر ومعاذير: قال صاحب (الكشاف) جمع المعذرة معاذر والمعاذير ليس جمع معذرة، وإنما هو اسم جمع لها، ونحوه المناكير في المنكر، والمعنى أن الإنسان وإن اعتذر عن نفسه وجادل عنها وأتى بكل عذر وحجة، فإنه لا ينفعه ذلك لأنه شاهد على نفسه القول الثاني: قال الضحاك والسدي والفراء والمبرد والزجاج المعاذير الستور واحدها معذار، قال المبرد: هي لغة يمانية، قال صاحب (الكشاف): إن صحت هذه الرواية فذاك مجاز من حيث إن الستر يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة الذنب، والمعنى على هذا القول: أنه وإن أسبل الستر ليخفي ما يعمل، فإن نفسه شاهدة عليه. اهـ.